حماس- القدس، الأسرى، و ملحمة الحرية في الزنازين

مرة أخرى، ننغمس في عالم عمار الزبن، في سردية مشبعة برائحة السجون، خطها الأسير الفلسطيني في زنزانة شطة عام 2001، تحمل في طياتها عبق أنفاس الأسرى، وتعبر عن تطلعاتهم نحو الحرية المنشودة.. لكلمات هذه الرواية سحر خاص، نشوة طاغية يشعر بها المؤلف عندما تلاحقها أنامل السجان، وهي تنقب بين الصفحات عن بذور الثورة، حيث صودرت أجزاء من الكتابات مرارًا وتكرارًا داخل السجن، لكنه يعود ليكتبها بعناد وصلابة.
في أعماق هذه الرواية، نطل عن كثب على "ثقافة تحرير الأسرى" التي تتبناها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وهي تستند إلى المقولة الرصينة للشيخ أحمد ياسين: "إن الحركة التي تبقي أبناءها خلف القضبان لمدة تزيد عن خمس سنوات، يجب أن تحلّ نفسها!".
ويردد الأسرى هذه القاعدة الثابتة التي وضعها الشيخ المؤسس، معتبرين أن كل الفصائل التي لا تسعى لتحريرهم يجب أن تُطوى صفحتها.
وتسلط الرواية الضوء على أن تحرير الأسرى لطالما كان هدفًا ساميًا لكتائب القسام منذ نشأتها المباركة، وتسعى جاهدة لتحقيقه بكل السبل المتاحة؛ فكل أسير فلسطيني، من أي فصيل كان، يحمل مكانة في القلب، ومن حقهم جميعًا على الكتائب أن تعمل بلا كلل من أجل إطلاق سراحهم؛ لذلك تصر حماس اليوم على تبييض السجون الإسرائيلية، تطبيقًا لمبدأ "الكل مقابل الكل" العادل.
لا حياة إلا في القدس
تستهل القصة أحداثها في جزيرة قبرص، حيث كان جهاد يواصل دراسته في الهندسة الكهربائية بالجامعة؛ بعد أن تمكن شقيقه، بالتوافق مع العائلة، من إبعاده قسرًا إلى قبرص؛ لإخماد جذوة مقاومته للجنود الإسرائيليين في دروب القدس وساحات المسجد الأقصى، لكنه يعبر بمرارة: "عندما تكون بعيدًا عن القدس، فإنك بالكاد تشعر بأنك حي.. إن وجع القدس يرافقك كظلك أينما حللت.. فكلما رفعت ناظريك إلى السماء، رأيت البراق يحدق بك بعين عاتبة، يطالب بحقه المغتصب.. فساحاته قد تحولت إلى حائط لبكائهم.. إن كل شيء يذكرك بالقدس، حتى ابتسامة الأزاهير في وقت الانتفاضة".
يسأله حسن، الذي التحق بالجامعة مؤخرًا: "هل ترى أي جدوى لوجودنا هنا؟!"
أجاب جهاد بحكمة: "بنفس القدر الذي يمكننا من الانتصار على الجهل بسلاح المعرفة".
لكن حسن لا يستطيع أن يحيا بعيدًا عن القدس؛ فهو مقدسي الهوى، خليل الأصل، يفاخر بعناده وكبريائه، يسترجع ذكريات اعتقاله على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي وهو في الخامسة عشرة من عمره؛ بتهمة إلقاء الحجارة على الشاحنات الإسرائيلية، كما اعتقل مرة أخرى، خلال دراسته الثانوية؛ بسبب مشاركته في الدفاع عن المسجد الأقصى في يوم النفير، مما أدى إلى حرمانه من الامتحان.
عندما حضر الوطن!
تزوج حسن في سن الثامنة عشرة، وعقد العزم على إحضار زوجته إلى قبرص. وعندما قدمت، هتف قائلًا: "لقد حلّ الوطن.. إنها حاضنة العمر والروح؛ حيث تنثر الزهور حبًا وعبيرًا وعشقًا.. لكنها في الغد ستكون أمًا للثوار الذين يتوقون إلى الموت؛ كي تحيا الأرض بلا يُتم ودموع".
على الرغم من أن أحوال حسن قد تبدلت نحو الأفضل، وشعر بالسعادة الغامرة بعد وصول زوجته؛ فإنه قرر بشكل مفاجئ العودة إلى فلسطين دون استكمال دراسته، بعد أن بلغه نبأ اعتقال شقيق زوجته، مروان، الذي تمكن مع مجموعته من أسر جندي إسرائيلي بهدف مبادلته بالأسرى الفلسطينيين. لكن جيش الاحتلال تعقبهم بوحشية وقتل الجندي، وتمّ اعتقالهم جميعًا.
لم يستجب حسن لمحاولات جهاد لإقناعه بالبقاء قائلًا: "لم أعد أطيق البقاء بعيدًا عن ساحة الوغى.. إن روح حسن ما زالت تحوم حول بوابات القدس؛ تتنقل كل ليلة من باب العمود إلى باب الساهرة إلى باب الأسباط، وتستظل تحت راية المراكشيين في باب المغاربة، وفي الصباح تتلو آيات الأنفال والتوبة على باب الخليل".
شعر جهاد بالوحدة والحنين بعد رحيل حسن، الذي لا يسعك إلا أن تحبه. لذلك صبر جهاد حتى نال شهادة الهندسة الكهربائية عام 1994 ليعود أدراجه إلى القدس، وينضم إلى حسن ورفاقه الثلاثة، ويشاركهم في عملية كان هدفها تدمير النقطة العسكرية المتمركزة أمام المنزل الذي اغتصبه شارون في البلدة القديمة. لكن تم اعتقال أيمن وعصام، وأصيب حسن.
النجاح في أسر جندي صهيوني
بعد سلسلة من العمليات التي هاجمت فيها المجموعة جنود الاحتلال الإسرائيلي، معتمدين على أساليب الخداع الإستراتيجي، تمكنت المجموعة أخيرًا من أسر جندي إسرائيلي، وأعلنت عن مطلبها بإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين.
كان الجندي الإسرائيلي الأسير يدعى نحشون فاكسمان، ويرسم لنا عمار الزبن صورة واقعية لسلوك القادة الإسرائيليين الذين كانوا يصرون على استعادة الجندي دون أدنى استجابة لمطالب كتائب القسام بإطلاق سراح الأسرى المظلومين.
ومن بين الحيل التي لجأوا إليها، تسجيل كلمة للشيخ أحمد ياسين، يحث فيها الكتائب على الحفاظ على حياة الأسير.
غمرت المجموعة فرحة عارمة برؤية الشيخ أحمد ياسين، ووقفوا جميعًا بإنصات لكلماته.. كانت وجوههم تعكس قصة حب وولاء لهذا القعيد الذي قهر عجزه الجسدي بالإرادة الصلبة، وعندما طالبهم بمعاملة الأسير معاملة إسلامية، رد عبد الكريم بلسان الواثق: "والله يا شيخ أحمد، لنطعمنّه من طعامنا، ولنلبسنّه من ثيابنا".
وتجسد الرواية كيف يبالغ المجاهدون في حماية الأسير وإكرامه والاعتناء بنظافته وراحته؛ فهدفهم الأسمى هو تحرير الأسرى الفلسطينيين، لذلك فإن قيمته تفوق كل اعتبار، كما توضح أن الأسير لا يحظى بأي قيمة لدى قادته الصهاينة، الذين يرفضون مبادلته بالأسرى الفلسطينيين، حتى لو أدى ذلك إلى مقتله.
الأسرى يسجدون لله
يصور الزبن لحظات استقبال الأسرى في السجون الإسرائيلية لخبر أسر الجندي الإسرائيلي؛ حيث خرّوا ساجدين لله فرحًا وتبجيلًا، واستبشروا بالفرج القريب، وتطلعوا إلى الحرية المنشودة. كانوا يتتبعون باهتمام بالغ كل خبر أو معلومة تتعلق بالأسير. لكن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تمكنت، بعد بحث مضنٍ، من تحديد السيارة التي استأجرها جهاد من مكتب لتأجير السيارات، وتتبعت مسارها، مما أدى إلى اعتقال جهاد. تم نقله إلى مركز تحقيق المسكوبية سيئ السمعة، الذي يمثل رمزًا لسجن الباستيل في فرنسا، أو بالأحرى، صورة طبق الأصل من الجحيم. كاد جهاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة عدة مرات تحت وطأة التعذيب الوحشي؛ حتى اضطر للاعتراف. وبدأوا يساومونه على إطلاق سراح الجندي، فعرض عليهم عددًا من المقترحات، لكنهم رفضوها بإصرار، وأصروا على إطلاق سراح الجندي دون دفع أي ثمن أو تحرير الأسرى الفلسطينيين.
لقد وُلدت شهيدًا!
عندما تمكن زكريا من الوصول إلى المجموعة لتحذيرهم، وأخبرهم باعتقال جهاد، رد حسن بقلب ثابت: "لقد وُلدت شهيدًا، لكن الشهادة ظلت تراوغني حتى اليوم.. فلماذا الحزن؟ إنني أزداد شرفًا أن أنال الشهادة مع أعظم فرسان فلسطين".
بعد فشل المفاوضات، اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي قراره الجائر باقتحام البيت الذي يحتجز فيه الجندي، على الرغم من معارضة القادة الميدانيين، وتم تشكيل وحدة من النخبة؛ لمهاجمة البيت بعد محاصرته من جميع الجهات.
أعدت المجموعة خطتها المحكمة للمقاومة، وتم توزيع الأدوار ببراعة. وعندما شنت قوات النخبة الإسرائيلية هجومها الخاطف، كانت المجموعة في أتم استعداد. وفي الجولة الأولى من الهجوم، أطلق عبد الكريم النار ببسالة، مما أدى إلى مصرع قائد قوات النخبة وإصابة عدد كبير من جنوده الذين كانوا يصرخون ويتأوهون بعد أن حطم طالب جامعي يحمل بندقية عنجهيتهم وغرورهم.
على الرغم من الإخفاق الأولي، أصر قادة الجيش على تكرار الهجوم، ورفضوا التفاوض بإباء، وظل صلاح وحسن يتحصنان في الغرفة، وكبرياء العدو تحت أقدامهما يندب حظ دولته العاثر وحماقة قادته.
سأخبرك عندما نلتقي في الجنة
تعالت تكبيرات المجموعة (حسن وعبد الكريم وصلاح)، وهم يشهدون مأثرة القدس البطولية؛ حيث برّ عبد الكريم بقسمه عندما اجتمعوا لوضع خطة التصدي للهجوم، وكل منهم يتمنى أن يكون في الصف الأول للدفاع؛ حتى استسلم حسن وصلاح لإصرار عبد الكريم، الذي أقسم لهما بأنه إن نال هذا الشرف العظيم، فسيمنع الوصول إليهما بروحه وجسده.
قال حسن: "ماذا ترى يا عبد الكريم؟ حدثنا عما تراه".
أجاب عبد الكريم بابتسامة واثقة: "سأخبرك عندما نلتقي في الجنة إن شاء الله".
هرعت سيارات الإسعاف العسكرية حاملة الجرحى.. ووزير الدفاع، إيهود باراك، يوبخ نائب قائد النخبة، الذي تولى قيادة العملية: "ما الذي جرى؟ كيف انسحبتم دون استعادة الجندي؟!"
رد نائب القائد بذهول: "لقد وقعنا في كمين محكم يا سيدي".
فأمره باراك بتكرار الهجوم باستخدام القنابل، وهو يعلم تمام العلم أن الجندي سيلقى حتفه، لكنه لم يأبه بحياة الجندي، وأصدر حكم الإعدام بحقه.
في الهجوم الثاني، اخترقت رصاصة صدر عبد الكريم، الذي أثار صموده وثباته غضب قوات النخبة الإسرائيلية؛ فأمطرت الرشاشات جسده الطاهر بوابل من الرصاص ليودع القدس وهو يعانق بندقيته.
وقف الجنود الإسرائيليون يلقون نظرة أخيرة على جسد هذا الشاب الذي أوقف هجوم المحترفين، وقد ارتسمت على محياه ابتسامة ساخرة تهزأ بهم.
بعد استشهاد عبد الكريم، حاول قائد النخبة التفاوض مع حسن وصلاح، وحثهما على الاستسلام؛ فأطلق صلاح وابلاً من الرصاص عبر الباب الخشبي قائلًا: "هل وصلكم الجواب؟ إن كتائب القسام لا تعرف الاستسلام!"
أطلق حسن دفعة أخرى من الرصاص؛ ثم ألقى عليهم قنبلة يدوية انفجرت محدثة دويًا هائلًا في المنطقة بأسرها، وتعالت صرخات الجنود الإسرائيليين.
لحظات الوداع
عانق حسن أخاه صلاح قائلًا: "من يستشهد أولًا، فليبلغ سلامي إلى عبد الكريم وإسلام وراغب والإمام البنا".
فأكمل صلاح بقلب خاشع: "وإلى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والشيخ القسام.. لا إله إلا الله، عليها نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله".
بعد أن استبد اليأس بالقوة الإسرائيلية من استسلام حسن وصلاح، أمر نائب القائد جنوده بإلقاء قنبلة حارقة على الغرفة التي يتحصن فيها حسن وصلاح مع الجندي، لتشتعل النيران في الغرفة.
اقتحم نائب القائد الغرفة باحثًا عن أثر للحياة في صدر نحشون فاكسمان.. لكن حسن كان لا يزال حيًا، فألقى بيده المحترقة قنبلة، أصابت قائد الوحدة وعددًا من جنوده، فأطلق الجنود عليه وابلًا من الرصاص ليفوز بالشهادة التي طالما تاقت إليها نفسه وحلم بها.
عقب انتهاء العملية، اتصل باراك برئيس الوزراء إسحاق رابين ليبلغه بفشل العملية الذريع، والتي أسفرت عن مقتل قائد وحدة النخبة المهاجمة، وإصابة 11 ضابطًا وجنديًا، ومقتل الجندي فاكسمان.
كانت تلك هي نتيجة استكبار قادة الاحتلال الإسرائيلي وغطرستهم البغيضة.. أما العملية البطولية فكانت مقدمة لكفاح مرير وطويل الأمد من أجل تحرير الأسرى الفلسطينيين من غياهب السجون الإسرائيلية.
